فن

دراما المقاومة: الفن والسلاح في خندق واحد

من المعتاد أن يكون العمل الدرامي تجسيدًا لبطولة قد حصلت بالفعل، لكن من جوانب الدراما الفلسطينية المميزة أنها قد تخلق الواقع. فكيف ذلك؟

future من اليمين، بوسترات المسلسلات: «قبضة الأحرار»، «الاجتياح: الحب والحياة على مرمى من الرصاص»، و«عائد إلى حيفا»

اندلعت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر عام 2023، فاشتعلت معها الآراء والتحليلات الاستراتيجية عن مآل هذا الطوفان، واليوم التالي لغزة بعد نهاية العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع. لكن بجانب تلك التحليلات السياسية والعسكرية، لفت الطوفان النظر إلى حدث آخر، جرى قبله بعدة أشهر.

يحيى السنوار رئيس حركة المقاومة الإسلامية حماس في قطاع غزة يقف وسط حفل كبير ليُكرّم عددًا من الفنانين. الفنانون معظمهم من الهواة ويدخلون مجال الدراما لأول مرة، كانوا أبطالًا في مسلسل أنتجته المقاومة بعنوان «قبضة الأحرار»، وعاد المسلسل للواجهة بعد طوفان الأقصى، حيث يمكن –بسهولة- اعتباره الإعلان الأول غير المباشر عن عملية ضخمة تقوم بها المقاومة ضد إسرائيل.

يدور المسلسل بشكل رئيسي حول حادثة اكتشاف رجال كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحماس، لخلية من المستعربين الذين تنكروا في ملابس فلسطينية وحاولوا التسلسل إلى قطاع غزة. ويكشف المسلسل عن الصراع الاستخباراتي الخفي بين المقاومة وإسرائيل. ويرصد كذلك أحوال سكان غزة الاجتماعية.

وظهر في المسلسل أحداثًا رأيناها بعد السابع من أكتوبر مثل دبابات إسرائيلية في شوارع غزة يقودها فلسطينيون بعد أسر طواقمها. كذلك سيطرة المقاومة على معسكري ريعيم وكدوميم. وقدرة المقاومة على التشويش على أجهزة الاستشعار الإسرائيلية واختراق السياج، كذلك تحدث المسلسل كثيرًا عن الدعم المفتوح من الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل.

فيمكننا القول هنا إن المقاومة قد استخدمت الدراما لتهيئة الرأي العام. مما يعكس تطورًا نوعيًا في أداء الفصائل المسلحة، والتفاتها إلى أهمية الدراما ووسائل الإعلام عامة. تمامًا مثلما يفعل الأمريكيون معظم الوقت. فهوليوود قد سخّرت نفسها لخدمة الجيش الأمريكي بكل السُبل. إما أنها تبرر الحرب للجمهور الأمريكي أو أنها تشحن غضبه وتستفز فتوره لإعادة الدعم للقوات الأمريكية المقاتلة، ثم تمجد الانتصار الأمريكي في تلك الميادين البعيدة، التي لا يعرف عنها المشاهد العالمي أكثر من اسمها، وأن القوات الأمريكية تضحي بنفسها هناك لجلب الحرية لأهلها، كما تخبره هوليوود.

فكما يقول الشاعر الأمريكي كارل ساندبيرج:

إن هوليوود ليس لها نظافة جامعة مرموقة كجامعة هارفرد، لكن هوليوود يمكنها أن تصل لمدى أبعد مما قد تصل أي جامعة أكاديمية أخرى.

يشير ساندبيرج إلى التأثير الذي يمكن أن تُحدثه الدراما ووسائل الإعلام في عقول الناس، وتشكيل أيديولوجياتهم، والتحكم في شعورهم بالتعاطف. فالدراما قد تحدد للمُتلقي أي الطرفين يقع في خانة الضحية، وأيهما الجاني.

الفلسطيني كحكاية ينقلها الآخرون

لم يكن من المستغرب أن تدخل المقاومة الفلسطينية في مجال الدراما. رغم أن فلسطين حاضرة في الدراما العربية عمومًا، لكن ربما لم يكن كافيًا لأهل البلد أن يظل الحديث عنهم صادرًا من الخارج. فمثلًا أنتجت سوريا عام 1981 مسلسل «القائد عز الدين القسام»، الذي يحكي عن رحلة الشيخ السوري الذي قرر أن يقود الثورة الفلسطينية، حتى ارتقت روحه شهيدًا في الأراضي الفلسطينية. ورغم أن القسام هو الأب الروحي للعمل المسلح الفلسطيني، وتحمل أكبر فصائل المقاومة اسمه حاليًا، فإن الحكاية كانت سورية عن بطل سوري.

لاحقًا التفت العرب إلى معاناة اللاجئين الفلسطينيين، فأنتجوا مسلسل «عائد إلى حيفا» عام 2007. وفي نفس العام صدر مسلسل «الاجتياح» الذي سلّط الضوء على الصمود الأسطوري لمخيم جنين في وجه الاجتياح الإسرائيلي عام 2002. ثم تشاركت مصر مع سوريا في الإنتاج فأنتجوا مسلسل «أنا القدس» عام 2010، ليحكي عن معاناة الفلسطينيين منذ لحظة وعد بلفور عام 1917 إلى النكسة عام 1967.

في وسط تلك الإصدارات كان الإصدار الأبرز الذي استطاع أن يحفر اسمه واسم صُنّاعه في تاريخ الدراما التي تتحدث عن المقاومة، مسلسل «التغريبة الفلسطينية» الذي كان من إخراج الراحل حاتم علي وكتابة الدكتور وليد سيف، وبمشاركة عدد كبير من كبار رجال الدراما العربية؛ حيث حكى المسلسل عن التهجير ومأساته في عام 1948، ثم رصد آثار النكسة عام 1967.

كذلك دخلت تركيا على خط الإنتاج؛ فأنتجت مسلسلًا بعنوان «الانفصال: فلسطين بين الحب والحرب» الذي يحكي عن تعذيب جنود الاحتلال للأطفال الفلسطينيين. ثم أنتجت عملًا آخر بعنوان «وادي الذئاب». وقد أغضبت تلك الأعمال الإدارة الإسرائيلية وحاولت منع بثهما خصوصًا بدبلجة عربية، واستدعت لذلك السبب السفير التركي لدى إسرائيل. وهددت بقطع بث القنوات التي تنقلهما.

المقاومة تحكي عن نفسها

بعد خفوت الأعمال التي تتحدث عن القضية الفلسطينية اكتشف الفلسطيني أنه لا بد أن يخوض معركة الدراما بنفسه. تلك المعركة التي بدأتها المقاومة عام 2009 بأول إنتاج لها عن عماد عقل، في فيلم يحمل اسمه. لكن تجلى إلحاح الحاجة للدراما في عام 2014، بعد معركة العصف المأكول. التي كانت البيانات الداخلية والإنتاج المرئي الداخلي سببًا في الحفاظ على وحدة الجبهة الداخلية. فبدأ التفكير في نقل السردية الفلسطينة للصراع إلى العالم كله.

كما قال الدكتور محمد ثريا رئيس دائرة الإنتاج الفني في حركة حماس:

إن المقاومة تجتهد بإمكاناتها المتواضعة لمجابهة الكذب والتضليل الإسرائيلي .. التوجه للإنتاج الدرامي جاء إدراكًا من المقاومة لحجم تأثير الدراما على وعي الجمهور، وأن ما تقوم به المقاومة عبر الإنتاج الدرامي بمثابة صراع من نوع خاص، صراع بين العقول.

تولت فضائية الأقصى هذه المهمة باعتبارها الواجهة الإعلامية لحركة حماس، فأنتجت مسلسل «الروح» الذي هدف إلى تأكيد أن المقاومة فعلًا مشتركًا بين سائر الفلسطينيين. فحكى عن المقاومة في الضفة الغربية وفي غزة، وأظهر المسلسل نجاح المقاومة عبر إبرام صفقة تبادل قوية للأسرى. ثم في عامي 2015 و2016 أنتجت فضائية الأقصى أيضًا مسلسل «الفدائي» الذي يُظهِر حال المقاومة في شوارع وأزقة مدينة الخليل.

ثم في عام 2017 ظهر مسلسل «بوابة السماء» الذي نقل الصراع في شوارع مدينة القدس. واستمر على مدار الجزء الأول والثاني عام 2018 في تناول معاناة المقدسي الذي يسعى إلى الوصول للمسجد الأقصى. فكأنما تحاول المقاومة أن تُخبِّر المقدسيين أن حالهم ليس بأحسن حال من أهل غزة الواقعين تحت الحصار المباشر، فكل الفلسطينيين تحت الحصار بدرجة أو بأخرى.

تجدر الإشارة إلى أن هناك عديدًا من الأعمال الأخرى التي أُنتجت في السنوات السابقة تتحدث عن الفلسطيني ومقاومته، حتى لو لم تأخذ نصيبها من الذيوع أو النجاح الجماهيري. مثل مسلسل «ميلاد الفجر» بجزأيه. والمسلسل الذي يحكي عن هروب الأسرى الفلسطينيين الستة من سجن جلبوع الإسرائيلي شديد الحراسة بعنوان «شارة نصر جلبوع».

الدراما أم المقاومة: أيهما يسبق الآخر؟

من المعتاد أن يكون العمل الدرامي تجسيدًا لبطولة قد حصلت بالفعل. لكن من جوانب الدراما الفلسطينية المميزة أنها قد تخلق الواقع. يقول السياسي الإسرائيلي آفي دختر:

إن الفلسطيني يشاهد المسلسل اليوم، ثم ينفذ ما يشاهده في اليوم التالي.

تلك المقولة جاءت تعقيبًا على عملية فعليّة نفذها مقاومون فلسطينيون يحاكون بها عملية شاهدوها في مسلسل «الفدائي». وفي تصريح سابق قال وزير الحرب الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان، إنه من الواضح أن صناع المسلسلات الفلسطينية يعرفون كيف يؤثرون في الرأي العام.

هنا نستنتج شيئين يبدوان متناقضين قليلًا، الأول أن الدراما الفلسطينية تؤثر بالفعل، لكن الثاني أنها لا تؤثر إلا على الداخل الفلسطيني فحسب. فبينما يكون الإنتاج الدرامي هادفًا إلى إيصال رسالة عالمية وتعريف العالم بالقضية، إلا أن الإنتاج الفلسطيني غالبًا ما يقف عند حدود بلاده. فيكون تأثيره أقرب إلى تقوية الجبهة الداخلية الفلسطينية، وتجديد الدوافع لدى المشاهد الفلسطيني، وإيقاظ الثأر القديم.

لكن نظرًا للحصار الإعلامي والمنع التعسفي لإدخال أي أدوات إنتاج تلفزيوني متطورة، وعدم وجود معاهد متخصصة للإعلام أو مدينة للتصوير والإنتاج الفني، تظل جودة المسلسلات الفلسطينية والدعاية لها غير قادرة على نقلها لمستوى عربي أوسع، فضلًا عن نقلها إلى مستوى عالمي. وهو ما تدركه دائرة الإنتاج الفني لدى المقاومة، لذا يقول الدكتور محمد ثريا إنه رغم الضعف الهائل في الإمكانيات، فإن المقاومة تحاول الاستمرار في الإنتاج الدرامي لمجابهة الاغتيال المعنوي الذي تمارسه إسرائيل ضد رجال المقاومة.

التضييق الإسرائيلي على الفن الفلسطيني لا يتوقف عند منع الأدوات فحسب. بل يتعرض طواقم العمل عند التصوير في مناطق قريبة من السياج الحدودي إلى إطلاق للنار. وحتى إذا نجحوا في تصوير العمل ورفعه على منصات التواصل والعرض مثل موقع يوتيوب مثلًا، فإن المنصة تقوم بحذفه، مثل مسلسل «بوابة السماء» الذي حقق قرابة 30 مليون مشاهدة على يوتيوب، قبل أن تقوم المنصة بحذفه نهائيًا.

الدراما كأداة للتحريض

تُعارض إسرائيل تلك الأعمال الفنية وتُضيق عليها بحجة أنها أعمال تحريضية ضد جنودها. وهو ما لا ينفيه أي فصيل من فصائل المقاومة المشارك في الإنتاج الدرامي. ويؤكدون أنهم بالفعل يحرضون شعبهم على الثورة ضد المحتل ومقاومته. ولعل ذلك من ضمن الثمار القليلة التي تجنيها المقاومة من الأعمال التي تنتجها وتنفق عليها، ولا تحصل من ورائها على أي عائد مائدي.

إن الأعمال الدرامية التي تنتجها المقاومة على الرغم من احتياجها الشديد للأموال لاقتناء معدات احترافية أو حتى معدات عادية بدلًا من المعدات المتهالكة التي تستخدمها منذ سنوات، فإنها تبث كل إنتاجها بشكل مجاني لجميع القنوات وعلى وسائل التواصل كذلك. فدراما المقاومة كما يراها صُنّاعها هي فعل يرافق العمل العسكري والسياسي ويزرع الوعي والثقافة، ويهدف إلى إثبات جدوى المقاومة، بخاصة في الوضع الإقليمي الحالي الذي يسير فيه قطار التطبيع بأقصى سرعة له.

إن طوفان الأقصى الذي يعيد حاليًا تشكيل المنطقة سياسيًا وعسكريًا، سيكون له أثر ضخم على الأعمال الدرامية اللاحقة. وربما تكشف الدراما جانبًا غيّبته عن المشاهدين الضرورات الأمنية والعسكرية، عن كيف تم التخطيط لهذا الطوفان، وكيف كانت اللحظات الأولى لتنفيذه. وهو ما سيعرفه المشاهد بالتأكيد عبر الدراما أكثر من معرفته عبر الإعلام العسكري أو البيانات السياسية، وهو ما يترقبه الجميع كذلك.

# دراما فلسطينية # دراما # فلسطين # إسرائيل # طوفان الأقصى # المقاومة الفلسطينية

هاشم صفي الدين: القائد المنتظر الذي يخشى حزب الله غيابه
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
جولات بلينكن في المنطقة ولعبة سياسة الهندسة

فن